أجل، كما قرأت في عنوان اليوم، نحن على وشك الوصول أخيراً للسيارات الطائرة والحواسيب الخارقة والقطارات الطوافة فائقة السرعة، وهذا بعد أن توصل فريق من الباحثين في جامعة كوريا إلى مادة جديدة قادرة على توصيل الكهرباء بشكل فائق في درجة حرارة الغرفة، اسموها "LK-99"، وهي ما يمكن اعتبارها المكون الرئيسي لكل هذه الاختراعات!

في الواقع، كل ما ذُكِر في الفقرةِ السابقة ليس حقيقيًا، إنما هذا فقط ما عليك تصديقه إن كنت تحب اتباع الأهواء والشائعات على الإنترنت، لكن في الحقيقة أن الـ LK-99 ليست مِثالية وثورية كما تدّعي عناوين الأخبار المنتشرة، وهي ليست "الإنجاز الفيزيائي الأعظم في تاريخنا"، ولازال الجدل حول تلك المادة مستمرًا حتى الآن من قِبل الباحثين.

لكن ماذا إن توصلنا إلى أن "LK-99 حقيقية"، ماذا يأتي بعد ذلك؟ وهل الأمر متوقف على فكرة السيارات الطائرة أم أن هناك ما هو أكثر أهمية؟ ولماذا حدثت الضجة من الأساس؟ إليك القصة بالكامل في مقالنا اليوم.

من أين أتت الـ LK-99 وما هي؟:

في الصورة بالأسفل تظهر الـ LK-99 وكأنها جزء من صخرة مكسورة أو ما شابه، لكن فعلياً الـ LK-99 هي مادة مصنوعة من الرصاص والأكسجين والفسفور ومهجنة بالنحاس.

الرمز الكيميائي لمادة LK-99 هو:

Pb10-xCux(PO4)6O

وتم التوصل إليها من قبل بعض الباحثين في جامعة كوريا الذين نشروا ورقتهم البحثية حولها يوم 23 يوليو 2023، وادعى هؤلاء الباحثين أن مادة LK-99 هي "أول موصل فائق للحرارة والكهرباء قادر على الأداء في درجة حرارة الغرفة وتحت ضغط معتدل"، وبطريقة أخرى يمكن القول أنها يمكنها توصيل الكهرباء دون أي مقاومة نهائياً!
طالع أيضًا: الجرينتا ليست كل شيء: دور تحليل البيانات في كأس العالم

ما وصفه العلماء يعد خياليًا بالكامل، وشبه مستحيل تحقيقه بحق، وإن كان حقيقيًا؛ لقفز العالم إلى المستقبل المثالي الذي نحلم به من اليوم الأول، ولأحدث ثورة تكنولوجية هائلة وغيّر العالم كليًا، حيث أن التوصل إلى مادة مشابهة للوصف سيقلل حرارة الحواسيب إلى الصفر وسيرفع القدرة الحوسبية بشكل عظيم، وسيوفر أطنانًا من الكهرباء التي يتم هلكها دون الاستفادة منها بسبب مقاومة الأسلاك المصنوعة من المواد غير ذات الكفاءة التي نستخدمها الآن، بالإضافة إلى قدرتها على إحداث ثورات في مجالات لانهائية أخرى، بداية من المجال الطبي وحتى النقل، لكن العالم لا يمكن أن يكون مثاليًا.

في عالمنا هناك العديد من مواد التوصيل الفائقة، يتم استخدامها في أجهزة الأشعة بالرنين المغناطيسي (MRI) والحواسيب الكَمّية، لكنها تحتاج إلى أن تعمل تحت درجات حرارة منخفضة للغاية وضغط عالي جدًا، وبيئتها المثالية تكون في الغالب في درجة حرارة تقل عن 150 درجة سيليزية سالبة (-238 فهرنهايت)، وتحت ضغط أعلى مليون مرة من الضغط العادي للجو (1 بار)، وهذا يجعل استخدام تلك المواد في الحياة اليومية وعلى نطاق واسع من المستحيلات؛ لارتفاع التكلفة ولصعوبة زرعها في الأجهزة، وإن أردت - على سبيل المثال - استخدامها في شبكة كهرباء؛ فستجد أن أمتارًا قليلة من أسلاكها قد تكلف الملايين لتطبيقها، والأمر غير اقتصادي بالمرة!

أقرأ أيضا: السيارات الكهربائية....حبل النجاة أم وهمٌ آخر؟

هل سمعنا قبل ذلك عن مثل هذه المادة؟:

في 2020 كانت هناك العديد من القصص الدرامية حول اكتشاف مجموعة باحثين لمادة فائقة التوصيل يمكنها تأدية غرضها في درجة حرارة الغرفة، حيث ادّعى حينها فريق باحثين من جامعة روشستر الأمريكية أنهم توصلوا تلك المادة السحرية، وقالوا أنهم صنعوها بالهادروجين والسلفور والكربون، ولكن; بعد أن نشرت مجلة Nature ورقتهم البحثية، تم سحب الورقة والتراجع عن المعلومات التي تحتويها، وقيل أنهم لاحظوا بعض الأخطاء في الطريقة التي أجرى بها الفريق تجاربهم، وأن المادة لم تكن كما وُصفَت في البحث.

في مارس الماضي، عاد فريق جامعة روشستر بعد أن حاولوا مرة أخرى، ونشروا ورقة بحثية جديدة عن مادة فائقة التوصيل قادرة على الأداء في حرارة الغرفة مصنوعة من الهيدروجين والنيتروجين مع إضافة معدن اللوتيتيوم النادر للغاية على الأرض، وسموها "Reddmatter" على اسم مادة خيالية من سلسلة Star Trek التلفزيونية، ولاتزال هذه الورقة حتى يومنا تحت المراجعة والتدقيق، خصوصاً بعد أن اتهم احد الباحثين المهمين في جامعة روشستر بالسرقة "العلمية" وفبركة المعلومات في عدة أعمال خاصة به.

ولكن، توقف لحظة.. هناك تساؤل جديد..

أقرأ أبضا: القدر المحتوم.. هل يُمكننا استبدال شرائح السيليكون في المُستقبل؟


لماذا الـ LK-99 غير معترف بها إلى هذا الحد؟:

مادة Reddmatter لازالت قيد المراجعة حتى يومنا هذا رُغم تقديمها في مارس 2023، أي مر أشهر على تقديم ورقتها البحثية ولاتزال قيد التدقيق فيما إذا كانت نتائجها صحيحة أم لا، بينما "LK-99" لم يمر على نشر ورقتها البحثية أيام وحصلت على الكثير من الكره تجاهها، فلماذا حدث هذا الأمر بسرعة؟ ألم تأخذ فرصتها في البحث والتجارب أم أن الحكومة الأمريكية تتآمر على كوريا بواسطة الإعلام؟

الإجابة: ولا هذا ولا ذاك، وإنما لبساطة مكونات الـ LK-99 مقارنة بالـ Reddmatter، فبينما تتطلب الأخيرة الحصول على مكونات نادرة جدًا ومن الصعب مزجها مع المكونات الأخرى، نرى أن الأولى ليست بهذا التعقيد، فالـ LK-99 تتكون من مواد بسيطة نسبيًا ولا تحتاج إلى عملية صعبة أو أدوات باهظة لتكوينها، ولذلك كان من السهل على الباحثين الآخرين تجربتها بأيديهم، لدرجة أن هناك مهندس يدعى Andrew McCalip قام ببث محاولته لصنع المادة على Twitch بعد أن وصل لجميع المكونات، ولم يقم بتحديد نتيجة تجربته، لكن الواضح أن الأمر من الصعب أن يكون بهذه البساطة، ولا يمكن أن نكون وصلنا أخيرًا إلى المادة التي ستغير مسار البشرية فقط بمزج الفسفور والنحاس مع الأكسحين والرصاص، ورغم ذلك قال بعض الخبراء أنه لا يمكن حسم الموضوع بهذه السرعة، وأنه سيكون من غير العادل الحكم على المادة باكرًا هكذا دون إجراء التجارب الكافية. اعندهم حق أم هم خاطئون؟ الأمر محسوم، وإليك السبب في الفقرة القادمة.

أقرأ أيضا: الحوسبة الكمية Quantum Computing، سراب التائه في الصحراء!

هل كان فريق LK-99 يبحث عن الـ "تريند" في الوسط العلمي؟:

كان طرح LK-99 للعالم قد سبب جدالًا واسعًا على الساحة العلمية، خاصةً بسبب نشر فريق جامعة كوريا للورقة مرتين على موقع arXiv لمسودات البحوث العلمية، المرة الأولى وهي تحمل ثلاثة من أسمائهم، والمرة الثانية وهي تحمل ست أسماء مع افتقاد اسم أحد الباحثين الذي ذكر في الورقة السابقة - الأمر الذي أثار الريبة حول الموضوع، ولم يتم توضحيه حتى الآن، مما جعل هناك شك حول "محاولة غدر" بين الباحثين للفوز بجائزة نوبل، وكما نعلم: فكل ميدالية من نوبل لا يأخذها أكثر من 3 أفراد، ويبدو أن هناك من شعروا بأن المادة تعمل وتؤدي غرضها؛ فقدموا الورقة سرًا دون علم زملائهم حتى يترشحوا للجائزة، ولكن الغدر لا ينفع صاحبه. الـ LK-99 ليست موصل فائق إطلاقًا، وقد أثبت الأمر!

في 7 أغسطس، قدم المختبر الفيزيائي القومي التابع لمجلس البحث العلمي والصناعي في الهند بحثاً بعنوان "Absence of superconductivity in LK-99 at ambient conditions" اثبت فيه مجموعة من الأساتذة أن تجاربهم لم تشر أبدًا إلى تواجد قدرات التوصيل الفائق في المادة، وإنما اتضح لهم أنها مجرد مغناطيس في النهاية - الـ LK-99 هي مجرد فقط مادة ممغنطة، حيث أن قياساتهم التي قاموا بها باستخدام SQUID (جهاز التداخل الكمي فائق التوصيل) في درجة حرارة الغرفة أشارت إلى أن LK-99 تُظهر علامات الـ النفاذية المغناطيسية - Diamagnism، أي أنها بمثابة - كما قلنا - مجرد مغناطيس!

ولم يكن علماء الهند وحدهم من قال ذلك، وإنما الأمر أثار أيضًا جامعة أوكسفورد البريطانية و جامعة بكين في الصين و حتى جامعة ماريلاند الأمريكية، وكلهم أجمعوا على نفس النتيجة، حيث قالوا جميعًا أن الـ LK-99 وفقاً لتجاربهم تظهر خواص مغناطيسية، وقال أحد الخبراء - Susannah Speller (التابعة لجامعة أوكسفورد) في تصريح:

تشير جميع الدلائل حتى الآن إلى أن هذا النظام [تقصد: "LK-99"] لديه بعض الخصائص المغناطيسية التي قد تكون مثيرة للاهتمام في درجة حرارة الغرفة، ولكن - كما اشتبه معظم الخبراء - لا يوجد دليل في الدراسات يدعم الادعاء الأولي بشأن الموصلية الفائقة في درجة حرارة الغرفة

وقالت مضيفة لمجلة New Scientist أن تفسير الطوفان الجزئي للمادة الذي تم طرحه من قبل الفريق معقول، ولكن على ما يبدو أن الأمور الأخرى لازال يحومها الريبة.

هل سنصل يوماً ما إلى المادة التي نحلم بها؟

دائمًا ما يفشل العلماء أكثر ما ينجحون، ولا يجب أن نُعجِّل العملية في الطريق للنجاح، وإنما كل شيء له أوان محدد وحتمًا سيأتي في أوانه عندما تتوفر المعرفة المطلوبة وتجتمع القطع المفقودة من الأحجية.

طالع أيضًا: ليس من بينها "الطيران" ، ستّة تقنيات ذكية بالسيارات لم نكن نحلم بها!

يقول Chris Grovenor (بروفيسور علم المواد في جامعة أوكسفورد) في رسالة بريد إلكتروني إلى The Verge أن الموصلات الفائقة التي تعمل في الظروف الطبيعية قد تكون مجرد شيء سحري لا يمكن أن يكون موجودًا في عالمنا مثل "أحادي القرن"، وأننا ليس لدينا الحق في أن نفترض بوجود أشياء مثل هذه طالما لم نصل إليها بعد وأن لا نجعلها حجة لتتوقف كل الأمور عليها، وعوضًا عن التركيز على البحث عن مادة موصلة للطاقة بشكل فائق يمكنها التأدية تحت درجات الحرارة العادية والظروف الطبيعية، يمكننا توفير طاقتنا للتركيز على الجانب الآخر، والذي يتمثل في البحث عن سبل جديدة لجعل الموصلات الفائقة الحالية أرخص في التصنيع وأسهل في التطبيق والنشر على نطاق واسع.

لا نعرف متى قد نرى موصل فائق كفؤ للتأدية في بيئتنا الطبيعية، ولا نعرف ما إذا كان مجال بحوث الموصلية الفائقة سينتعش بعد كل هذه الضجة التي سببتها الـ LK-99، ولكن ما هو أكيد هو أن حين تلاشي المصلحة العامة وظهور أولئك المستثمرين الذين سيطمعون في الفرص؛ سنجد وعودًا جريئة من المؤسسات البحثية والمعامل التي ستدعي أن العصر الذهبي للتوصيل الفائق قادم قريبًا من أجل المال، ومن يعلم ما قد إذا كانت ستأتي النتيجة بالسلب أو الإيجاب؟ لا أحد. علينا الانتظار حتى يأتي اليوم الذي سيتبين فيه اليقين.

كل ما نعلمه حتى الآن أن الـ LK-99 مجرد أكذوبة فاشلة وأن العالم لازال كما هو .. حتى يثبُت العكس.