في عام 2008، ظهرت فكرة ثورية تحمل في طياتها تحولًا جذريًا في عالم التداول والأموال، وهي فكرة العملات الرقمية المشفرة. صاغ هذه الفكرة شخص أو مجموعة مجهولة الهوية اتخذت اسم ساتوشي ناكاموتو (Satoshi Nakamoto). وظهرت هذه الفكرة للمرة الأولى عندما نشر ساتوشي ناكاموتو ورقةً بيضاء بعنوان «بيتكوين: نظام نقدي إلكتروني بين الأقران» على مجموعة مختلفة من المنتديات على الإنترنت.

والآن، وبعد 15 عامًا من إطلاق هذه العملة، ما زالت هوية ساتوشي ناكاموتو مجهولةً، ولا توجد أي أدلة يمكن أن تؤكد بشكل قاطع هويته الحقيقية، سنتحدث في هذا المقال عن عدد من الشخصيات التي أثارت جدلًا واسعًا على الإنترنت، وذلك بعد الاشتباه في كونهم الشخصية الحقيقية المختبئة خلف اسم ساتوشي ناكاموتو.

نشأة البيتكوين

تضمنت الورقة التي نشرها ساتوشي رؤيته حول هذا النظام الجديد، كما بينت كيفية إنشاء نظام نقدي إلكتروني يعتمد على التشفير والتوزيع اللامركزي، ما يسمح بإجراء المعاملات بشكل مباشر دون الحاجة إلى وسيط كما هو الحال في المعاملات التقليدية التي تتم عبر البطاقات والخدمات البنكية المختلفة. وفي يناير 2009، بدأ ساتوشي تنفيذ هذه الفكرة مع تعدينه أول كتلة في سلسلة الكتل (Blockchains) والتي أطلق عليها اسم كتلة التكوين (Genesis Block)، إذ تمثل هذه الخطوة ولادة البيتكوين.

صُممت هذه العملات لتكون أموالًا لامركزية وغير قابلة للتلاعب، إذ يتم تسجيل جميع المعاملات في سلسلة الكتل بشكل عام وشفاف. ومع ذلك، واجهت هذه العملة العديد من التحديات في نشأتها، إذ لم يؤمن بها كبار المستثمرون، بل اعتبرها البعض مجرد لعبة على الإنترنت، وكانت في السنوات الأولى بلا قيمة تقريبًا.

وبمرور الوقت، بدأ البيتكوين في جذب انتباه الشغوفين بالتقنية على الإنترنت، إذ كان البيتكوين يُستخدم في المعاملات البسيطة على الإنترنت فقط، مثل شراء وتبادل بعض عناصر الألعاب الأونلاين على سبيل المثال. ومع الوقت، بدأ المستثمرون في الانتباه إلى هذه العملة، ما أدى إلى زيادة قيمتها شيئًا فشيئًا؛ حتى وصل سعر العملة إلى أكثر من 1000 دولار أمريكي في عام 2013، وظل في الارتفاع إلى أن حقق أقصى قيمة له بسعر يبلغ 69 ألف دولار عام 2021، في مسيرة عجيبة مليئة بالتقلبات.

طالع أيضًا: صعود جنوني جديد في سعر البيتكوين - الأسباب والتوقعات

تُمثل نشأة البيتكوين بداية مرحلة جديدة في تاريخ الأموال والتداول، إذ إنها غيرت من طرق الاستثمار التقليدية، وفتحت آفاقًا جديدة وابتكارية للاستثمار والاقتصاد العالمي اللامركزي؛ وها هو البيتكوين بعد 15 عامًا من النجاح يواصل صعوده المجنون المليء بالتقلبات المعتادة، إذ يبلغ سعره (لحظة كتابة هذا السطر) نحو 47.5 ألف دولار أمريكي.

جدول لأقصى سعر حققه البيتكوين بالدولار في كل عام (منذ عام 2010 حتى 2023)

العام

أقصى سعر للبيتكوين بالدولار

2010


$0.31

2011


$29.60

2012


$13.49

2013

$1,152.41

2014


$873.62

2015

$479.75

2016

$11,494.97

2017

$19,783.06

2018

$15,951.58

2019

$13,920.17

2020

$29,000.00

2021

$69,000.00

2022

$47,732.00

2023

$44,202.18

من هو ساتوشي ناكاموتو؟

يعتبر ساتوشي رمزًا لعملة البيتكوين، والعملات المشفرة بشكل عام، ولكنه قد حرص كل الحرص على إخفاء هويته الحقيقية؛ حتى ظن البعض أن ساتوشي ناكاموتو ليس شخصًا واحدًا، بل هو اسم لمجموعة كبيرة من الخبراء في مجالات التقنية والاقتصاد.

كان ساتوشي أول من عدَّن البيتكوين، ولكن ثروته من هذه العملة غير معروفة حتى الآن. ومع ذلك، تُشير التقديرات المعتمدة على معدلات تعدين العملة ودراسة تاريخها أن ثروة ساتوشي من البيتكوين تُقدر بنحو 1.1 مليون بيتكوين. وهو رقم ضخم جدًا يضع ساتوشي ضمن أغنى أثرياء العالم، وذلك في أوقات ازدهار هذه العملة المجنونة بالطبع. وبما أن تعدين البيتكوين سيكتمل ويتوقف عند 21 مليون عملة فقط، من المتوقع أن ساتوشي سيملك أكثر من 5% من إجمالي البيتكوين الذي سيكون موجودًا في عالمنا هذا.

أعددنا لكم قائمةً من 4 أشخاص أُثير حولهم الجدل بشكل واسع على الإنترنت، وذلك بعد الاشتباه في كونهم ساتوشي ناكاموتو الحقيقي. ومع ذلك، لا يمكن أبدًا أن نجزم بهوية هذا الشخص، إذ يظل لغز هوية ساتوشي ناكاموتو أعقد الألغاز الموجودة في تاريخ الإنترنت وأكثرها غموضًا.

دوريان ناكاموتو

كانت قضية دوريان ناكاموتو (Dorian Nakamoto) هي الأشهر على الإطلاق، والتي أثارت جدلًا واسعًا على الإنترنت، بسبب مصادفة عجيبة جعلت من اسمه يتطابق مع الاسم المزعوم لمؤسس هذه العملة؛ فهو يُدعى رسميًا «دوريان ساتوشي ناكاموتو».

في عام 2014، نشرت مجلة Newsweek تحقيقًا صحفيًا ادعت فيه أنها توصلت إلى هوية ساتوشي ناكاموتو الحقيقية. وذكرت في تحقيقها أن دوريان هو المؤسس الحقيقي للبيتكوين. وسردت المجلة أسبابها والتي تضمنت التطابق التام في الاسم، بالإضافة إلى المسار الوظيفي، إذ ذكرت أن دوريان، الذي درس الفيزياء، كان يعمل في عدد من المشاريع الهندسية السرية التابعة للحكومة، والمتعلقة بالبرمجيات.

استشهد كاتب المقال أيضًا بعبارة ذكرها دوريان عند سؤاله حول البيتكوين، إذ قال نصًا: «لم أعد أعمل في هذا المجال»، واعتبر كاتب المقال أن هذا اعتراف ضمني من دوريان بأنه مخترع البيتكوين، إذ اعتقد الكاتب أنه أسس العملة وتركها لفريق آخر يتولى إدارتها. ومع ذلك، خرج دوريان للعامة ونفى بشكل قاطع علاقته بالبيتكوين، وذكر أن الصحافة أساءت فهمه؛ فهو كان يقصد أنه لم يعد يعمل في مجال الهندسة، ولم يكن يقصد تمامًا في هذا الاقتباس مجال البيتكوين.

ومع الأضرار التي تعرض لها دوريان بعد الكشف عن هويته ومنزله، وفي خضم هذه الأحداث؛ قرر عدد من النشطاء الشغوفين بهذه العملة تعويض دوريان من خلال إطلاق حملة لجمع التبرعات لصالحه في اعتذار له عما سببه البيتكوين له من أضرار. وبالفعل، نجحت الحملة في جمع 102.23 بيتكوين لصالح دوريان، بمشاركة 2100 داعم، وقد بلغت قيمة هذا الرقم وقتها 34500 دولار أمريكي في عام 2014. وبسعر اليوم (10 يناير 2024)، تصل قيمة هذا الرقم إلى 4.7 مليون دولار تقريبًا!

كريغ رايت

يعتبر كريغ رايت (Craig Wright) هو الشخص الأغرب الموجود في هذه القائمة. في العادة، تُشير بعض القرائن أو الأدلة إلى أشخاص مشتبه في كونهم ساتوشي، ثم يخرج هؤلاء الأشخاص فورًا ينفون هذا الاتهام بشكل قاطع؛ أو على الأقل يكتفون بالصمت. ولكن في هذه الحالة، ادعى كريغ رايت بنفسه أنه مخترع عملة البيتكوين!

يعمل كريغ رايت عالمًا في مجال الحاسوب والبرمجيات، ويدعي أنه أسس هذه العملة المشفرة الأشهر بالتعاون مع صديقه المتوفي ديف كلايمان، والذي كان يعمل في مجال الأمن السيبراني. أعلن رايت هذا الادعاء بعد مقال نشرته مجلة Wired تشتبه فيه بأن رايت هو ساتوشي ناكاموتو الحقيقي. تبلغ ثروة رايت من البيتكوين نحو 1.1 مليون بيتكوين، وهو نفس الرقم الذي توقعه الخبراء لثروة ساتوشي ناكاموتو.

ومع ذلك، رفض العديد من الخبراء في مجال البيتكوين هذا الادعاء، واستشهدوا بكذب رايت المستمر في عدة أمور خاصة بمسيرته المهنية والأكاديمية. وعلى سبيل المثال، ادعى رايت أنه حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة تشارلز ستورت الأسترالية، والتي أخبرت مجلة Forbes أنها لم تمنح هذه الدرجة لرايت.

إيان غريغ

يعتبر إيان غريغ (Ian Grigg) أحد المهندسين المخضرمين في مجال التشفير المالي، وقد رأى عدد من خبراء البيتكوين أنه من الممكن أن يكون ساتوشي ناكاموتو الحقيقي. نشر إيان ورقةً علميةً في عام 2005، قبل ظهور مفهوم البيتكوين بثلاث سنوات، بعنوان (Triple Entry Accounting)، وتحدث فيها إيان عن مفهوم سلاسل الكتل (Blockchains) بشكل تقني.

وارتبط إيان في مساره المهني مع كريغ رايت، الذي ادعى أنه ساتوشي الحقيقي، ما جعل بعض الخبراء يظنون أنه من المحتمل أن يكون ساتوشي عبارة عن مجموعة من الأشخاص تضم رايت وإيان غريغ وغيرهم. ورأى عالم البيانات مايكل تشون أن أسلوب كتابة إيان يتشابه بشكل كبير مع أسلوب الكتابة الموجود في كتابات ساتوشي المختلفة؛ في الورقة البيضاء التي نشرها، أو في رسائل البريد الإلكتروني التي تلقاها البعض من ساتوشي.

نيك زابو

في النهاية؛ نُقدم لكم نيك زابو (Nick Szabo)، وهو أقرب الأشخاص لهوية ساتوشي ناكاموتو الحقيقية، إذ إن له العديد من الإسهامات المتعلقة بعالم العملات المشفرة. يعمل نيك زابو مهندسًا للبرمجيات، كما أنه فقيه قانوني، وهو مؤسس فكرة العقود الرقمية؛ وهي بروتوكولات حاسوبية تعمل على تسهيل عمليات التداول وتنفيذ العقود على الإنترنت. وتستخدم هذه البروتوكولات بشكل واسع في عالم العملات المشفرة.

وفي عام 2008، أسس نيك زابو مفهومًا جديدًا للعملات اللامركزية، وأطلق عليه اسم بيت غولد (Bit Gold)، وهو مفهوم يمكن اعتباره نواةً للبيتكوين، إذ يتشابه هذا البروتوكول بشكل كبير جدًا مع مفهوم البيتكوين؛ فهو بروتوكول يمكن من خلاله إنشاء عملات رقمية مشفرة لامركزية، غير قابلة للتزوير، ويمكن استخدامها بشكل مباشر على الإنترنت دون الحاجة إلى أي وسيط أو طرف ثالث مثل المؤسسات البنكية.

أشار الكاتب دومينيك فريسبي، مؤلف كتاب Bitcoin: The Future of Money، إلى نيك زابو باعتباره مخترع هذه العملة. واعتمد فريسبي في كتابه على عدد من القرائن مثل تشابه طريقة الكتابة بين زابو وساتوشي، وذلك بمطابقة كتابات زابو مع أسلوب الكتابة في الورقة البيضاء التي أصدرها ساتوشي في 2008. واستشهد فريسبي أيضًا بعمل زابو في شركة DigiCash، وهي الشركة التي حاولت الدمج بين التشفير والمدفوعات الرقمية للمرة الأولى.

لم يُعلق زابو على هذه الادعاءات بشكل علني، ولكن كشف فريسبي أنه تلقى بريدًا إلكترونيًا من زابو يُخبره فيه أنه ليس ساتوشي الحقيقي. ومع ذلك، نشرت النيويورك تايمز مقالًا في عام 2015 تُبين فيه دليلًا وصفته بأنه «أكثر الأدلة إقناعًا» على أن زابو هو ساتوشي الحقيقي. وذلك من خلال أحد التعليقات التي نشرها زابو على مدونته قبل عام 2008، والتي ذكر فيها أنه يستعد لإطلاق عملته الافتراضية على الإنترنت.

كالعادة، لن نستطيع أبدًا التنبؤ بأي معلومات غامضة تخص البيتكوين؛ فهي كانت وستظل لغزًا من ألغاز الإنترنت، بدءًا من خوارزميات تعدينها، وصولًا إلى التنبؤ بمستقبلها، وحتى معرفة صانعها.